تساءل عدد من محبي المعارف عن حظ العلوم الإنسانية من الفتوح التي تتحقق للجامعة في عالم المقاولاتية، ولم يجدوا (تصريفة) تمنح الفلسفة والأدب وعلم الاجتماع وما شابهها من العلوم، فرصة الإسهام في بناء الاقتصاد الوطني، فاقترح بعضهم العمل على التأسيس لمكاتب الخبرة الاجتماعية، وزيّنوا فكرة «المستشار التاريخي»، و»الأخصائي النفسي»، ولكنهم أجمعوا – في الأخير – على تقليب أيديهم أسفا على ما أنفقوا في العلوم الإنسانية..
وقد يكون واضحا أن مكتبا لـ»الخبرة الاجتماعية» عندنا – على سبيل المثال – لا يمكن أن يفكر فيه من تعمّق في النظريات الاجتماعية فعلا، ولا تختلف حال «الخبرة» في علوم السياسة والعلاقات الدّولية، فهذه أقصاها المشاركة في برنامج تلفزيوني بالمجان، ومثلها خبرات «الاتصال» و»الفنون»، أما «شؤون النفوس» فهي (سيّئة السمعة)، بلهَ عن المنتج الأدبي والفلسفي والتاريخي الذي لا يحظى (بنظرة)، حتى لو يستخرج عفريت علاء الدين من قمقمه..
ولسنا نرغب في العودة إلى الحديث عن الحاجة إلى العلوم وتكاملها، فهذه مسألة شبعت تشريحا وشرحا، وفصّلها (تفصيلا) هانز غيورغي غادامير في كتابه الملهم «حقيقة ومنهج»، غير أنّنا نريد أن نسجّل أن الحديث عن «صناعة السينما» – مثلا – لا يمكن أن يكتمل دون أديب أريب، والفكرة المبدعة في المجال التقني، تحتاج الفيلسوف المبهر، ونجاح التجارة يحتاج القراءة الاجتماعية المعمّقة، وهكذا دواليك.. لا يمكن – بأيّة حال – التأسيس لنشاط مقاولاتي ناجح، دون رؤية إنسانية واضحة، وهذا ما يغفله دعاة التقانة المحض، مع الأسف..
وفي كل حال، الإنسان هو (المبتدأ والخبر) في معترك العلوم، وهو – كما تقول الحكمة – لا يحيا بالخبز وحده..