يكرس قانون الأوقاف الجديد دور الوقف كمحرك للتنمية والتكافل، من خلال تخصيص جزء من مداخيله للبر والإحسان، إنشاء صناديق وقفية، وتمويل مشاريع تنموية، بل وحتى تقديم قروض حسنة للمستحقين، مما يجعل من الوقف أداة فعالة في مكافحة الفقر وتعزيز العدالة الاجتماعية، كما يجسد هذا المشروع القانوني نقلة نوعية في مجال إدارة الأوقاف، عبر تكريس مبدأ الشفافية وتوسيع قاعدة الاستثمار، بما يفتح آفاقا جديدة لتحريك الأصول الوقفية في خدمة المجتمع والدولة.
في خطوة تشريعية رائدة، يهدف قانون الأوقاف الجديد، إلى إرساء معالم رؤية حديثة لمؤسسة الوقف في الجزائر، ترتكز على الشفافية، والتسيير العصري، واستثمار الأوقاف في إطار يراعي خصوصيات المجتمع الجزائري ويستند إلى مقاصد الشريعة الإسلامية.
وينص القانون في فصله الأول على جملة من الأهداف، يأتي في مقدمتها تشجيع انفتاح مؤسسة الوقف على المجتمع، وترقية إرادة الخير والبر، وتحديث آليات إدارة الأملاك الوقفية وتسييرها وتنميتها والمحافظة عليها، مع تفعيل عمليات البحث عن الأوقاف داخل الوطن وخارجه، وتوثيقها وضمان تخصيصها.
ويكرس النص القانوني مبدأ احترام إرادة الواقف، باعتبارها ركيزة أساسية في تأسيس الوقف واستمراره، كما يشجع على تطوير استثمار الأملاك الوقفية في إطار من الحرية والشفافية والمساواة.
أنواع الوقف وطبيعته القانونية
قسم نص القانون الأوقاف إلى ثلاثة أنواع رئيسية، الوقف العام الذي يصرف ريعه في أوجه الخير العامة، سواء حددت جهته مسبقا أو تركت عامة، والوقف الخاص الذي يحبس على أشخاص أو عقب معين، ويؤول لاحقا إلى جهة يحددها الواقف أو إلى الوقف العام، والوقف المشترك الذي يجمع بين الجهتين، أي جهة خير عامة وأشخاص معينين.
ويؤكد القانون أن الأملاك الوقفية لا تعد ملكا لا للأشخاص الطبيعيين ولا المعنويين، كما يحظر التصرف فيها أو الحجز عليها أو رهنها، باعتبارها ذات طابع خاص ومصونة بحكم القانون، ووسع المشروع من نطاق الأملاك الوقفية العامة المصونة، لتشمل أماكن العبادة، والمقابر، والأضرحة، والعقارات المخصصة للمساجد والمدارس القرآنية، والعقارات ذات الطابع الثقافي أو السياحي، والممتلكات الوقفية المرتبطة بالخدمات العامة والتعليمية والصحية، إلى جانب الأملاك الموقوفة لصالح الجمعيات والمؤسسات، كما يشمل النص الأوقاف المكتشفة أو المعلومة خارج التراب الوطني، ويولي اهتماما خاصا بالأملاك التي لم يعرف مآلها أو انقطع عقبها، لتؤول إلى الوقف العام ضمانا لاستمرار النفع العام.
الإعفاءات والتحفيزات
من أبرز ما جاء به القانون، منح إعفاءات جبائية وشبه جبائية وجمركية للأملاك الوقفية العامة، والحصص الخيرية ضمن الأوقاف المشتركة، كما يمكن أن تستفيد الاستثمارات الوقفية من الأنظمة التحفيزية المنصوص عليها في قانون الاستثمار، ما يعد خطوة عملية نحو تفعيل دور الأوقاف في الاقتصاد الوطني.
ويشترط القانون إعداد الوقف بعقد رسمي يحرره موثق، ويخضع لإجراءات التسجيل والشهر العقاري بالنسبة للعقارات، كما يلزم الموثقين والإدارات العمومية وكل من يحوز وثائق وقفية بإبلاغ السلطة المكلفة بالأوقاف، وتسليمها نسخا من الوثائق ذات الصلة.
وتتولى السلطة المكلفة بالأوقاف مهمة الإشراف على قبول الأوقاف العامة، وجردها، وحمايتها، مع منحها صلاحيات واسعة بالتنسيق مع الهيئات الأخرى لضمان الشفافية وحماية الملكيات الوقفية.
ويفتح النص الباب أمام استخدام جميع وسائل الإثبات القانونية والشرعية لتوثيق الوقف، بما في ذلك شهادات الأشخاص العدول، خصوصا في حالات عدم وجود وثائق رسمية، على أن يتم إعداد شهادة موثقة تخضع للشهر العقاري.
تنظيم استحقاق المنفعة الوقفية
رسم قانون الأوقاف الجديد ملامح منظومة وقفية حديثة ومتكاملة، من خلال ضبط آثار عقد الوقف، وحماية العين الموقوفة، وتنظيم حقوق الموقوف عليهم، إضافة إلى تحديد أسباب بطلان الوقف وانتهائه. وتأتي هذه الأحكام لتكمل الهيكلة القانونية الجديدة التي تهدف إلى توسيع نطاق الأوقاف وضمان فعاليتها الاجتماعية والاقتصادية.فبمجرد إنشائه، يكتسب الوقف الشخصية المعنوية، وتنتقل ملكية المال الموقوف من الواقف إلى الموقوف عليهم، ضمن حدود العقد، ويمنع كليا التصرف في أصل المال الوقفي سواء بالبيع أو الهبة أو الرهن، إلا في حالات نادرة يحددها القانون صراحة، مع بطلان كل تصرف مخالف لذلك.
مرونة مشروطة في تسيير المال الوقفـي
يسمح القانون الجديد للأوقاف بتغيير وجهة المال الموقوف أو استبداله إذا تعرض للضياع أو فقد المنفعة، أو لضرورة عامة كشق الطرق أو توسيع المرافق، شريطة الحصول على ترخيص من السلطة المختصة، ويجب أن يكون التعويض أفضل أو مماثلا من حيث القيمة، مع إمكانية اللجوء للتعويض المالي في حال تعذر العيني، وذلك وفقا للخبرة واحتراما لإرادة الواقف.يستحق ريع الوقف وفقا لإرادة الواقف، مع شروط واضحة لاستحقاق الأشخاص الطبيعيين والمعنويين، وتسقط المنفعة في حالات الوفاة، زوال الصفة، أو التنازل، وفي حال انعدام المستحقين، تؤول المنفعة إلى الأوقاف العامة، كما يسمح للواقف وذوي قرباه حتى الطبقة الرابعة بالانتفاع من الوقف الخاص في حدود الحاجات الأساسية.من جهة أخرى، ينص القانون الجديد على تحديد الاستحقاق في الوقف الخاص بأربع طبقات فقط، وبعدها يرجع الملك للورثة أو للوقف العام، ويمنع الحجب بين الذكور والإناث في هذا النوع من الوقف. أما الوقف المشترك، فتقسم منافعه بالتساوي بين الأفراد والجهة الخيرية إذا لم ينص العقد على خلاف ذلك.
جرد وطني شامل للأملاك الوقفية
ينص القانون على إلزام جميع الهيئات والإدارات العمومية بالتنسيق مع السلطة المكلفة بالأوقاف بهدف إجراء عمليات بحث وحصر وتسوية الأملاك الوقفية، ولتحقيق هذا الغرض، سيتم إعداد سجل وطني عام للأملاك المنقولة والعقارية، إلى جانب سجل خاص بالمستفيدين من الوقف، مما يكرس مبدأ الشفافية والرقمنة في إدارة الأوقاف.
وتسجل الأملاك الوقفية العامة والحصص الخيرية في الوقف المشترك ضمن سجل عقاري خاص، وتدمج كل العقارات التي خصصتها الدولة لبناء المساجد والمدارس القرآنية ضمن الأملاك الوقفية العامة. كما تستفيد السلطة المكلفة بالأوقاف من إجراء الدفع بالدينار الرمزي للحصول على العقارات الوطنية المخصصة للمشاريع الدينية والخيرية.
إدارة احترافية واستغلال استثماري
يمنح قانون الأوقاف السلطة المكلفة بالأوقاف صلاحيات واسعة في إدارة وتسيير واستغلال وتنمية الأملاك الوقفية عبر أجهزة مختصة، مثل مديريات الشؤون الدينية، وهيئات التسيير والمؤسسات الوقفية بمختلف أنواعها، كما يسمح لها بالإشراف على الأوقاف الخاصة وتحقيق التكامل في إدارتها.
ويحدد نص القانون مجموعة من الصيغ الاستثمارية المطابقة للشريعة الإسلامية لاستغلال الأملاك الوقفية، على غرار الإجارة، المزارعة، المساقاة، الحكر، المرصد، المقاولة، المقايضة، المشاركة، القراض، المرابحة، السلم، البناء والتشغيل والتحويل، البناء والاستغلال، كما يسمح بالمساهمة في رؤوس الأموال، إنشاء صناديق وقفية، وتوظيف الأموال عبر الصكوك والودائع الاستثمارية، بما يدعم استدامة التمويل وتنمية الوقف.
ويتضمن جملة من الإجراءات الردعية والرقابية لمكافحة التعدي على الأملاك الوقفية، حيث يخول لمفتشي إدارة الأملاك الوقفية ووكلاء الأوقاف صلاحيات تفتيش ومعاينة الجرائم، مع إعداد محاضر رسمية وتحويلها للعدالة في ظرف 72 ساعة، ويمنح هؤلاء صلاحية حجز الوسائل المستعملة وتشميع الأماكن عند الضرورة.
حماية الأملاك الوقفية
في إطار سعي الدولة لتعزيز الحماية القانونية للأوقاف وضمان تسييرها بشفافية، يتضمن الفصل الثاني عشر من مشروع قانون الأوقاف أحكاما جزائية صارمة تهدف إلى التصدي لكل أشكال التعدي أو التلاعب بأموال الوقف، سواء العقارية أو المنقولة.
ويعاقب القانون كل من يستولي بغير وجه حق على ممتلكات وقفية سواء باستعمال الغش، التهديد أو القوة، بعقوبات سالبة للحرية تصل إلى خمس سنوات وغرامات مالية قد تبلغ 500 ألف دج، وتمتد العقوبات لتشمل من يستغل الوقف بطرق ملتوية، أو من يغير طبيعة الملك الوقفي، أو يقيم منشآت عليه دون ترخيص مسبق، كما يعاقب بالسجن كل من يخفي عمدا وثائق أو شهادات تثبت الوقف أو الوصية بوقف، وخاصة إذا ترتب عن ذلك الإخفاء حصول المستفيد على منافع غير مستحقة. ويلزم الجاني بتسليم الوثائق محل الجريمة إلى أصحاب الحق أو السلطات المختصة.وينص القانون على معاقبة كل من يعرقل أعمال الرقابة أو يقدم معلومات مغلوطة للمفتشين أو الموظفين المكلفين بمتابعة شؤون الوقف، وذلك بالحبس والغرامة.
موازاة مع ذلك، خصص المشروع نصوصا خاصة للتعامل مع الجرائم المرتبطة بغسيل الأموال أو تمويل الإرهاب إذا كانت أموال الوقف محلا لها، وذلك وفقا للتشريع الجزائي الساري المفعول.
ولا يعفي القانون من المسؤولية كل من علم بارتكاب جريمة وقفية ولم يبادر إلى التبليغ عنها، مع تشديد العقوبة إذا كان الشخص على علم بذلك بحكم مهنته أو وظيفته، وفي حالات معينة، تضاعف العقوبة إذا كان الجاني موظفا عموميا. وفي المقابل، يسمح القانون بالاستفادة من الأعذار المعفية من العقوبة لكل من يبلغ طوعا عن الجريمة أو يساعد في الكشف عنها قبل مباشرة المتابعة القضائية، مع تخفيض العقوبة إلى النصف إذا تم التبليغ بعد بدء التحقيق.
آليات تعاون وتحقيق دولي
من جهة أخرى، ينص القانون على إمكانية اللجوء إلى التعاون القضائي الدولي للكشف عن الجرائم الوقفية المرتكبة، خاصة في الحالات التي تتطلب تبادلا للمعلومات أو ملاحقة الجناة خارج الحدود، في إطار الاتفاقيات الدولية، ويشدد النص على مصادرة الأدوات والأموال المستعملة أو المتحصل عليها من الجرائم الوقفية، مع احترام حقوق الغير حسن النية.
الجامعي عبد القادر بن عزوز: الوقف رافد تنموي ومجتمعي شامل
أكد عبد القادر بن عزوز أستاذ جامعي، أهمية الوقف كرافد اجتماعي واقتصادي وديني وثقافي، يساهم في تعزيز التضامن داخل المجتمع، ويملك من الإمكانات ما يجعله عنصرا فاعلا في تحقيق التنمية المستدامة، واستشهد بتجارب دول عديدة على غرار ماليزيا وبعض دول الخليج، التي أدرجت الوقف ضمن رؤاها المستقبلية، معتبرا أن الجزائر يمكنها الاستفادة من هذا التوجه، من خلال تطوير إطارها القانوني والتنظيمي.
وأشاد الأستاذ بن عزوز، بالجهد المبذول في إعداد القانون من طرف وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، معتبرا أنه يحمل في طياته روح التحيين والمواكبة، خصوصا في ظل تعدد المرجعيات القانونية التي تلامس موضوع الوقف، كالقانون التجاري، وقانون الآثار، وغيرها، إلا أنه أشار إلى عدة ملاحظات تتطلب المعالجة قبل اعتماد النص النهائي.
وأبرز المتحدث أن نص القانون ركز على الوقف العام وأجّل ونسي نسبيا الوقف الخاص، رغم ما لهذا الأخير من دور حيوي في تشجيع المواطنين والمستثمرين على التبرع الوقفي، مسجلا غياب بعض الضمانات القانونية الواضحة التي تحفز أصحاب رؤوس الأموال على الدخول في مشاريع وقفية خاصة، خصوصا فيما يتعلق بالحماية القانونية لهذه الأملاك من التعدي أو التلاعب.
وتوقف المتدخل عند المادة 13 المتعلقة بالإعفاءات الضريبية، متسائلا عما إذا كانت تشمل الوقف الخاص ذا المنفعة العامة أم تقتصر فقط على الوقف العام، كما طرح إشكالية الرجوع عن الوقف، متسائلًا عن المدة الزمنية المسموح بها لذلك، والجهة المخولة قانونًا للنظر في هذا الرجوع، مطالبا بتوضيحات قانونية في هذا الشأن.
أشار بن عزوز إلى أن النص شدد على حماية الأملاك الوقفية العامة من التعديات، لكنه لم يمنح نفس الدرجة من الصرامة أو الوضوح فيما يتعلق بالأوقاف الخاصة، وهو ما قد يفسر كتقصير في منح الثقة القانونية الكاملة للمبادرات الوقفية الفردية.
وأثار محدثنا إشكالية مساءلة الشخص الاعتباري، لاسيما إذا كانت الجهة المديرة للوقف هي من تتعدى أو تخل بشروط الوقف، فبينما يحمى الوقف من الغير، تساءل عن آليات المحاسبة عندما تصدر المخالفة من داخل المؤسسة نفسها.
وخلص إلى القول إن قانون الأوقاف الجديد يمثل خطوة إيجابية في مسار إصلاح المنظومة الوقفية في الجزائر، ونجاحه يبقى مرهونا بإشراك كافة الفاعلين، ومراعاة التنوع الذي يميز الواقع الوقفي، من حيث صيغ الوقف وأشكال التسيير، ومن خلال معالجة دقيقة للثغرات القانونية المحتملة التي قد تعيق تفعيله على أرض الواقع.