لم يعد خافيًا أنّ فرنسا تعاني من أزمة دبلوماسية مركّبة، يتقاطع فيها الانفعال السياسي مع الهروب من مواجهة الفشل الداخلي. وفي سياق لا يخلو من الغرابة والارتباك، خرجت وسائل إعلام فرنسية لتعلن، نقلاً عن «مصادر رسمية»، أنّ باريس قرّرت فرض التأشيرة على حاملي جوازات السّفر الدبلوماسية الجزائرية. لكن ما خفي في هذا الإعلان كان أعظم، لا من حيث المضمون فحسب، بل من حيث الشكل والإجراءات المعتمدة التي كشفت ما يشبه التمرد المؤسّساتي داخل فرنسا على الأعراف الدّبلوماسية الدولية.
في أيّ عُرف دبلوماسي (أو غير دبلوماسي) تُعلن قرارات سيادية تخص العلاقات بين دولتين عبر تسريبات صحفية؟! وأي منطق يقبل أن تُبلغ الجزائر، الدولة الشريكة في اتفاق رسمي موقّع سنة 2013، عبر مقالات صحفية و»مصادر إعلامية مطلعة»، بقرار يعتبر في الأصل خرقًا صريحًا لأحكام ذلك الاتفاق؟! ومن هذا الجهبذ الذي أوحى له عقله المستنير!! بـ «إضافة» أسلوب (التمريرات الفاشلة) إلى العمل الدّبلوماسي؟!
وزارة الشّؤون الخارجية الجزائرية لم تُخف استغرابها، وأشارت إلى أنّ الإتصال الفرنسي بشأن التأشيرات يتم اليوم بطريقة لا تليق بالعلاقات بين بلدين لهما تاريخ طويل من التفاوض والتفاهم، رغم كل ما شابه من اضطرابات.
باريس تنكث اتّفاقًا لهثت لأجل تحقيقه!!
بعيدًا عن الادّعاءات الفرنسية بأنّ الجزائر أخلّت بالتزاماتها، فإنّ الوثائق الرسمية تكشف بوضوح أنّ اتفاق إعفاء حاملي الجوازات الدبلوماسية لم يكن في أي مرحلة مطلبًا جزائريًا. بل على العكس، كانت فرنسا هي من اقترحت هذا الإجراء منذ 1986، حين أصر وزير الداخلية آنذاك شارل باسكوا على ضرورة استثناء حاملي جوازات السفر الدبلوماسية من نظام التأشيرة الجديد الذي فُرض على الجزائريين في ذلك الوقت. وتكرّرت الدعوات الفرنسية في التسعينيات، لكنها قوبلت بالرفض الجزائري مرّة بعد مرّة.
ثم جاءت المبادرة من باريس عام 2007، حين أبرم وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنر اتفاقًا مع نظيره الجزائري مراد مدلسي، ينص على إعفاء متبادل لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية من التأشيرة، وهو ما تمّ تثبيته رسميًا في اتفاق موقّع بتاريخ 10 جويلية 2007. وجاء في ديباجة النص الرسمي الفرنسي أنّ «إعفاء التأشيرة لحاملي الجوازات الدبلوماسية يعد وسيلة لتيسير العلاقات الدولية». فكيف لفرنسا إذاً، أن تتبرّأ من اتفاق كانت هي صاحبة فكرته، وصاغت أسبابه القانونية، ووقّعت عليه طواعية وقلبها يرقص سعادة؟!
ولعلّ الشّهادة الأكثر دلالة جاءت من السفير الفرنسي الأسبق لدى الجزائر، كزافييه دريانكور الذي كثيرا ما تحامل على الجزائر بدوافع غير مبرّرة، حيث أكّد في حوار صحفي لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية، أن «المبادرة بإعفاء التأشيرة انطلقت من وزارة الخارجية الفرنسية، وتحديدًا من كوشنر، عبر تبادل رسائل رسمية مع الجزائر»، رغم محاولة دريانكور تبرير الموقف بالقول إن الاتفاق الذي بادرت به بلاده يخدم مصلحة الجزائر، إلاّ أن هذا الادّعاء يبدو متهافتًا ولا يصمد أمام الوقائع التي تؤكّد عكس ذلك، وهذا يعني ببساطة أن الامتياز الذي تصفه باريس اليوم وكأنّه تنازل مجاني للجزائر، كان مطلبًا فرنسيًا خالصًا، سعت إليه باريس بإلحاح ولم تستجب له الجزائر إلا بعد سنوات من التحفظ.