التمويل، انشغال دائم يرهن تحقيق تنمية مستدامة في أي بلد، والجزائر ليست بمعزل عن هذا الانشغال. وفي هذا المسعى، ومن أجل صياغة اقتراحات وحلول دولية جماعية لدعم جهود التنمية ورأب الفجوة التمويلية، يشارك الوزير الأول نذير العرباوي، ممثلا لرئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، في فعاليات المؤتمر الدولي الـ 4 لتمويل التنمية بقصر المؤتمرات بإشبيلية، من 30 جوان إلى 3 جويلية الجاري.
تأتي مشاركة الوزير الأول في هذا المؤتمر، والجزائر تعرف نهضة متعددة الأبعاد، قوامها إصلاح اقتصادي هيكلي عميق، تسنده ثورة تشريعية حقيقية، لحرير المبادرة، وتحفيز الاستثمار، وتنويع الاقتصاد الوطني، بعيدًا عن ريع النفط، وفي إطار مقاربة تعتمد رؤية شاملة أبرز صورها، ترشيد النفقات، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وضمان إقلاع اقتصادي حقيقي.
وبما أن التنمية المستدامة نموذج شامل غرضه تلبية احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها الخاصة، مع أخذ بعين الاعتبار الأبعاد البيئية، الاقتصادية، والاجتماعية بشكل متوازن، يتدارس المشاركون في المؤتمر، مسائل ذات صلة بمشكلة تمويلها، لاسيما الوقوف على مدى تنفيذ برنامج عمل أديس أبابا لدعم تنفيذ خطة التنمية المستدامة لعام 2030، والتي تدعو إلى وضع أطر تمويل وطنية متكاملة لتكمّل الاستراتيجيات الوطنية للتنمية المستدامة، بفضل شراكة عالمية حقيقية ترتكز على قيم الإنصاف والتضامن وحقوق الإنسان.
رؤية استراتيجية متكاملة
تبنت الجزائر، منذ فترة رؤية تنموية استراتيجية متكاملة تجسدت في إنجاز مشاريع كبرى، والمبادرة بإصلاحات تشريعية ومؤسساتية وتنظيمية لافتة في مقدمتها الجانب التشريعي، المؤطر للنشاط الاقتصادي والتجاري والتشريع المالي الجديد، وتنظيم الحياة العامة وأخلقة الحياة السياسية، فضلاً عن إعادة هيكلة وتحسين مناخ الأعمال والاستثمار ومحاربة البيروقراطية.
هي إنجازات محورية حققتها الجزائر وسط مسيرة تنموية صاعدة، خلال مراحل إصلاح متعاقبة باشرتها السلطات العمومية، رغم الظروف الإقليمية والدولية المعقدة، والتحديات المرتبطة بالتحولات الاقتصادية العالمية والأزمات المتكررة، والتوترات الجيوسياسية المتلاحقة.
في هذا الصدد، أكّد رئيس المجلس الشعبي الوطني، إبراهيم بوغالي، في كلمة ألقاها، الأحد الفارط، في يوم برلماني حول “السياسات العمومية الاقتصادية برؤية تشريعية: إنجازات.. وتحديات”، أن هذه الإنجازات المحورية تواجه تحديات موضوعية، ما يستوجب -بحسبه- تكثيف الجهود لتسريع وتيرة المشاريع، إصلاح القطاع المالي والمصرفي، دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، تحفيز الإنتاج الوطني واستدراج الأموال المتداولة خارج المنظومة البنكية. اضافة إلى تكريس الشفافية والرقابة في إنفاق المال العام، وهي كلها ورشات تؤطر انطلاقة اقتصادية واجتماعية حقيقية.
وأوصى مشاركون في هذا اليوم بضرورة تشجيع الشراكة مع القطاع الخاص والمجتمع المدني في إعداد وتنفيذ البرامج التنموية، وتعزيز الرقابة البرلمانية والمجتمعية على تنفيذ السياسة المحلية. وأكّدوا أيضا على الزامية مواصلة الإصلاحات الجبائية وتبسيطها للوصول إلى الشمول المالي، ووضع إجراءات تنظيمية لأصحاب الثروة التي تنشط خارج القنوات الرسمية.
تقارير دولية منصفة.. واصلاحات تؤتي ثمارها
اتبعت الجزائر مسارا طموحاً في درب التنمية المستدامة، مرتكزةً على دعائم القدرة على الصمود والابتكار والتحديث الاقتصادي، بشهادة عدة تقارير دولية.
في هذا السياق، أشاد رئيس بعثة صندوق النقد الدولي بالجزائر، شارالامبوس تسنغاريدس، صندوق النقد الدولي، في ندوة صحفية بالجزائر العاصمة، الاثنين، بالإصلاحات الاقتصادية التي باشرتها الجزائر، لاسيما في دعم الاستثمار، مؤكدا أن البلاد “تسير في الطريق الصحيح” ضمن مسعى التنويع الاقتصادي.
وأوعز المتحدث ذلك إلى الجهود التي تبذلها السلطات الجزائرية لتنويع الاقتصاد وتحسين مناخ الأعمال من أجل تحفيز الاستثمار الخاص، مشيرا إلى أن الإصلاحات التي شرعت فيها في مجال الاستثمار “بدأت تؤتي ثمارها”.
وسلط ممثل صندوق النقد الدولي الضوء على غياب المديونية الخارجية للجزائر، مضيفا أن قلة قليلة من الدول حول العالم توجد في وضع اللجوء الضئيل إلى الاستدانة.
وفيما يخص الترسانة التشريعية المتبناة في السنوات الأخيرة، أشاد المتحدث بمواصلة تطبيق قانون النقد والصرف الذي صدر سنة 2023، فضلا عن “تحسين إدارة السيولة وتعزيز القدرات في مجال تنبؤات الاقتصاد الكلي وتحليل السياسات”، مثمنا في الوقت ذاته الإصلاحات الأخيرة في مجال الحوكمة، والجهود المستمرة لتعزيز منظومة مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، فضلا عن تعزيز الشفافية والمسؤولية في القطاع العمومي.
وسجل صندوق النقد الدولي بارتياح أيضا التقدم المحرز في إطار تطبيق القانون العضوي للمالية لسنة 2018، وإنشاء وحدة بوزارة المالية مكلفة بالإشراف على المؤسسات العمومية وتعزيز تسيير المخاطر الميزانياتية.
وبشأن القطاعات خارج المحروقات، أكّد ممثل المنظمة الدولية أنها نشطة، حيث حافظت على ديناميكيتها خلال سنة 2024، مسجلة نموا قدره 2.4 بالمئة.
وعن الآفاق الاقتصادية الداخلية، أبرز المتحدث أنها تظل مدعومة بزيادة تدريجية لإنتاج المحروقات، موضحا أن هذا المعطى من شأنه دعم النمو خلال سنة 2025، في سياق الرفع التدريجي للإجراءات التي اتخذتها مجموعة أوبك+ لتقليص الإنتاج.
في المنحى ذاته، أكد رئيس بعثة صندوق النقد الدولي أن الآفاق الاقتصادية للجزائر على المدى القصير “تبقى إيجابية”، رغم حالة عدم اليقين السائدة على المستوى العالمي، مشيرا إلى أن النمو الاقتصادي بلغ سنة 2024 نسبة 3.6 بالمئة.
من جهة أخرى، قال المسؤول ذاته أن احتياطات الصرف سنة 2024 “ظلت معتبرة”، حيث بلغت 67.8 مليار دولار، أي ما يعادل نحو14 شهرا من الواردات، في حين شهد معدل التضخم “انخفاضا كبيرا”، منتقلا من 9.3 بالمئة سنة 2023 إلى 4.1 بالمئة سنة 2024.
ويعود هذا الانخفاض، بحسب ممثل صندوق النقد الدولي أساسا إلى ارتفاع بطيء لأسعار المواد الغذائية، متنبأ أن يظل التضخم معتدلا في 2025.
خطى واثقة نحو تحقيق التنمية المستدامة
في سياق متصل، أظهر التقرير الأخير للبنك الدولي حول الجزائر، الصادر في ربيع 2025، أن الاقتصاد الجزائري شهد نموًا قويًا في 2024، مدفوعًا بقطاعات خارج المحروقات، وتراجع ملموس في معدلات التضخم.
ومع هذه المؤشرات الإيجابية، شدد التقرير، على ضرورة تعزيز الإنتاجية في القطاعات الحيوية، لتحقيق نمو اقتصادي أكثر استدامة وتنوعا، وتقليل التأثر بالمخاطر الخارجية، خاصة تقلبات أسعار النفط والغاز.
وأشار التقرير إلى ان الناتج المحلي الإجمالي الجزائري حقق نموًا بـ4.8% في 2024، مدفوعًا بقطاعات خارج المحروقات. وعرف التضخم تباطؤًا ملحوظًا في 2024، مدفوعًا بالإنتاج الزراعي القوي واستقرار أسعار المواد الغذائية الطازجة.
وركز البنك الدولي على أهمية تنويع الصادرات خارج قطاع المحروقات وزيادة القيمة المضافة لتلبية أهداف الحكومة، ودعا إلى تعزيز الإنتاجية لتقليل الاعتماد على الإنفاق العام والمحروقات وتحقيق نمو أكثر استدامة.
وأكّد التقرير انه رغم مواجهة الاقتصاد الجزائري تحديات مثل انخفاض الإنتاجية والضغوط العالمية لخفض الانبعاثات الكربونية وتحديات أخرى يجب معالجتها لضمان نمو مستدام على المدى الطويل، لكن الجزائر تسير بخطى واثقة نحو تحقيق التنمية المستدامة.
مثال يُحتذى به
من جهته، أشاد تقرير البنك الدولي السنوي لتصنيف الدخل، الصادر في 1 جويلية 2024، بما حققته الجزائر في مجال التنمية المستدامة، مصنفا إياها من بين أربع دول فقط على مستوى العالم، في الانتقال من فئة الدول ذات الدخل المتوسط الأدنى إلى فئة الدول ذات الدخل المتوسط الأعلى.
وأبرز التقرير أيضا ان الجزاير حققت أكبر انخفاض في حرق الغاز على الصعيد العالمي في 2023، مسجلةً بذلك العام الثالث على التوالي من التراجع في انبعاثات حرق الغاز، إضافة إلى انخفاض إنتاج النفط بنسبة 2%، حيث حققت الجزائر انخفاضا إجماليا بنسبة 3% في كثافة الحرق، ضاربةً مثالاً يُحتذى به في عام لم تكن فيه الاتجاهات العالمية ايجابية.
التزام ثابت بأهداف التنمية المستدامة
ويؤكد وزير المالية، عبد الكريم بوالزرد، دائما، التزام الجزائر الثابت بتحقيق أهداف التنمية المستدامة، باعتماد السلطات العليا حزمة تدابير وإصلاحات، لاسيما ما يتعلق بإدماج هذه الأهداف في السياسات العمومية.
ومن بين ما قاله في هذا الباب، كلمة ألقاها نيابة عنه رئيس ديوان الوزارة، جمال الدين زلاقي لدى افتتاح أشغال المنتدى الثاني للاقتصاد المستدام، حيث أبرز أنّ الجزائر جعلت من التنمية المستدامة محوراً استراتيجياً، عبر “إرادة سياسية واضحة لربط النمو الاقتصادي بالعدالة الاجتماعية”. وأشار الوزير إلى شروع الحكومة في تنفيذ إصلاحات هيكلية لتعزيز إدماج هذه الأهداف تدريجياً، إلا أنّه رغم حجم الجهود المبذولة، لا يزال تمويل التنمية المستدامة يشكّل تحدياً رئيسياً.
ويتطلب الأمر – بمنظور بوالزرد – تعبئة موارد مالية كبيرة في السياق العالمي الراهن، باللجوء إلى أدوات مبتكرة وتنويع مصادر التمويل، اعتبارا أنّ “الأدوات التقليدية لم تعد كافية”.
وأكّد وزير المالية أنّ “التنمية لم تعد خياراً، بل واجباً، وتمويلها ليس بنداً تقنياً في الميزانية” لأنها “ركيزة لعقد اقتصادي واجتماعي جديد يقوم على المسؤولية البيئية والعدالة بين الأجيال”.
وفيما يخص المسؤولية البيئية، أشار بوالزرد إلى قيام الجزائر بمراجعة تدريجية لنظام الجباية البيئية عبر اعتماد أدوات قانونية ومؤسساتية تتماشى مع مبدأ “الملوّث يدفع”، من أجل الحدّ من الآثار البيئية وتحفيز السلوكيات المستدامة.
وركّز الوزير على ضرورة دعم القطاعات الاستراتيجية، كالاستثمار في الطاقات المتجددة، والزراعة المستدامة، والاقتصاد الدائري، والبنى التحتية البيئية، إلى جانب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
رؤية استشرافية لغد أفضل
يقول بشير مصيطفى، وزير أسبق وخبير في الاستشراف، ورئيس المؤسسة الجزائرية “صناعة الغد”، في تصريح لـ “الشعب أونلاين”، إن تمويل التنمية في الجزائر موضوع معقد لأنه يخضع لمفارقة بين الاقتصاد المبني على السوق والاقتصاد المبني على الخزينة.
ولأن الانتقال من نمط الانتاج الاشتراكي ونمط اقتصاد السوق في 1989 لم يكن مدروسا أو مبنيا على رؤية فقد وقع الاقتصاد الجزائري في المفارقة المذكورة .
ويقترح الاستاذ مصيطفى، والجزائر تسير في اتجاه نهضة تنموية بتجسيد مشاريع اقتصادية كبرى أساسها احداث ثورة تشريعية حقيقية، بالابتعاد عن التمويل المباشر من خزينة الدولة عبر آليتي الجباية النفطية والضريبة على الدخل، والتوجه بشكل أوسع نحو خيار التدخل القوي للسوق المالي (البورصة) وسوق رأس المال (شركات المخاطرة وشركات “sicave” وسوق الإقراض (المصارف) التي يفرضها اقتصاد السوق.
ويرى هذا الخبير أن تدخل مؤسسات السوق التمويلية يبقى ضعيفا، بسبب ضعف هيكلة المؤسسات خارج الخزينة من جهة، وضعف منسوب الخطر على الاقتصاد لتوفر التمويل المبني على الجباية النفطية .
وهذا ما يؤدي، بحسب محدثنا، إلى خلل وحالة لا توازن في هيكلة الناتج الداخلي الخام، الذي يمكن تداركه بتطوير نموذج نمو مبني على محركات نمو سريع وعلى تنوع مصادر تمويل الاقتصاد .
ويبدأ تنويع مصادر تمويل الاقتصاد بادماج مالية الخواص، من سيولة وأموال متهربة من الضرائب وأموال المتاجرة سريعة الربح، في قطاعات الاقتصاد المحركة للنمو من خلال ميثاق الشراكة بين القطاعين العام والخاص “ppp”، يشرح الأستاذ مصيطفى.
ويدعو رئيس المؤسسة الجزائرية “صناعة الغد”، إلى اطلاق بنوك متخصصة، بالشراكة بين الدولة والقطاع الخاص في قطاعات مثل الصناعة والسياحة والصناعات التحويلية والصناعة الفلاحية والفلاحة الرقمية وتكنولوجيا الطاقة وتكنولوجيا المعلومات..
ومن هذا المنظور، يشجّع الخبير على رفع رأسمال البنوك العمومية وفتحه أمام القطاع الخاص، إضافة إلى تقنين التمويل بصكوك المشاركة ( الصكوك الاسلامية ) وإنشاء بنك تمويل حكومي مبني على المشاركة في الأرباح و الخسائر موجه لقطاعات الفلاحة (المزارعة) والري (المساقاة) والصناعة (الاستصناع) وفي قطاع التمويل الاجتماعي والخيري والوقفي.
ويستدعي تنوع تمويل التنمية –بحسب رأيه- أيضا تحيين القانون المنظم للسوق المالي وتسهيل عملية الإدراج أمام شركات القطاع الخاص ومنح حوافز ضريبية للشركات العارضة للأسهم، بالموازاة مع تقنين التمويل بطريق سندات الخزينة الموجهة للجمهور بإنشاء جسر بين هذه المنتجات و طرحها في البورصة.
ويثمّن الاستاذ مصيطفى القانون الجديد للاستثمار، متمنيا أن يسهم في منح تسهيلات أكثر نجاعة لصالح التمويل الأجنبي المباشر، وتبسيط الإجراءات الإدارية لتوفير بيئة استثمارية جاذبة، مع التركيز على بعض القطاعات ذات الأولوية، بدراسة المزايا التنافسية مقارنة بدول الجوار .
ومن مقترحات الخبير أيضا لجلب مصادر تمويل أكبر تُضخ في المشاريع التنموية، اطلاق بنوك استثمار متخصصة في الدول ذات الفائض الرأسمالي وفي الدول كثيفة الجالية الجزائرية.
وأخيرا، يوصي الوزير الأسق بالتوجه نحو التمويل اللامركزي لتمويل التنمية المحلية، عن طريق البنوك المتخصصة في التمويل الصغير والمصغر في قطاعات الفلاحة والصيد البحري والصناعات الحرفية، وخدمات الطاقة والطاقات المتجددة عبر تشجيع صناديق تمويل مشاريع الطاقة الشمسية بالجنوب، وصناديق تمويل مشاريع طاقة الرياح بالهضاب، وصناديق تمويل مشاريع طاقة المياه بالولايات الساحلية.