تراهن الجزائر في إعادة رسم خارطة الأولويات الاقتصادية، على زراعات إستراتيجية وأقطاب فلاحية في مساحات صحراوية شاسعة، تُقلص التبعية إلى الأسواق الخارجية وتُقلل فاتورة استيراد غذاء الجزائريين، في عالم يشهد تقلبات جيو-سياسية واقتصادية متسارعة.
يُعد هذا الرهان الزراعي جزءا من رؤية اقتصادية تُعيد رسم خارطة الأولويات التنموية، واستغلال إمكانات هائلة بجنوب البلاد، وفتح المجال أمام الاستثمار المحلي والدولي في شعب فلاحية استراتيجية، وهي قفزة أُرفقت بحزمة تدابير وإجراءات تشريعية وهيكلية وتسهيلات تضع الملف في الطريق الصحيح..
في عرض بموقع ديوان تنمية الزراعة الصناعية بالأراضي الصحراوية، يرتكز مفهوم المشاريع ذات الطابع الاستراتيجي، في الفلاحة بالجزائر، حول ثلاث جوانب: الهدف، المساحة، إلى جانب نوع الزراعة مثلما يحددها في قائمة من 8 زراعات.
يُعتبر مشروع زراعة استراتجي، كل مشروع يهدف إلى “ضمان الأمن الغذائي والتقليل من الاستيراد، إضافة إلى خلق أقطاب حقيقية للتنمية في الشعب الفلاحية الكبرى تكون عبر الولايات الجنوبية فقط.”، وفي مساحة مرجعية لا تقل عن 10.000 هكتار باستثناء فرع تكثيف البذور بمساحة لا تقل على 2000 هكتار.
ووفق عرض الديوان، تتمثل قائمة الزراعات ذات الطابع الاستراتيجي في: الحبوب، الأعلاف، النباتات الزيتية، الشمندر السكري، إنتاج الحليب، إنتاج اللحوم، القطن، تكثيف البذور.
ومنذ صدور المرسوم التنفيذي رقم 24-55 المؤرخ في 11 رجب عام 1445 الموافق 23 جانفي سنة 2024، المحدد لشروط وكيفيات منح الأراضي التابعة للأملاك الخاصة للدولة، للاستصلاح في إطار الامتياز، المتضمن استحداث إجراءات استثنائية، منها منح العقار الفلاحي أراضي لاستصلاح عن طريق حق الامتياز من أجل تجسيد المشاريع ذات الطابع الاستراتيجي، صنفت مشاريع ذات طابع استراتيجي، منها ثلاث مشاريع هامة بمساحة إجمالية تفوق 67 ألف هكتار، وهي:
- المشروع المقدم من طرف الشركة ذات أسهم تفاديس TAFADIS SPA كمشروع ذي طابع استراتيجي لزراعة الحبوب وزراعة الشمندر السكري و زراعة دوار الشمس على مساحة 20.000 هكتار بولايتي ورقلة وتوقرت.
- مشروع “بي أف الجزائر BF AL DJAZAIR/ SPA” كمشروع ذي طابع استراتيجي لزراعة الحبوب وزراعة الحبوب الجافة على مساحة 36000 هكتار بولاية تيميمون.
- مشروع “بلدنا الجزاير SPA BALADNA EL DJAZAIR” كمشروع ذي طابع استراتيجي لزراعة الحبوب والأعلاف، تربية الأبقار، إنتاج الحليب المجفف والحليب والألبان وإنتاج لحم البقر على مساحة 117.000 هكتار بولاية أدرار.
ومن أجل تطوير الزراعة الصناعية الإستراتيجية بالأراضي الصحراوية، أنشأ شباك وحيد على مستوى ديوان تنمية الزراعات الصناعية، قصد التنفيذ الفعال لمشاريع الاستثمار، يتشكل من مديريات ممثلة لقطاعات وزارة مختلفة، تكلف بـ:
– تسهيل الشروع في مشاريع الاستثمار و ضمان مرافقتها بصفة مستمرة.
– ضمان مرافقة المستثمرين للحصول على عوامل الإنتاج.
– ضمان مرافقة المستثمرين للاستفادة من المزايا المنصوص عليها في التشريع و التنظيم المعمول بهما في الاستثمار.
– السهر على أداء الشكليات الضرورية لإطلاق المشاريع الاستثمارية و تسهيل إنجازها و كذا سيرها.
حول هذا التوجه الزراعي الطموح، يتحدث الخبير في التنمية الفلاحية والمستشار السابق بوزارة الفلاحة، أحمد مالحة لـ”الشعب أونلاين”، عن توجهات السياسة الزراعية للبلاد والأبعاد الإستراتيجية، تحديات وفرص النجاح، أهمية انخراط شركات كبرى مثل “سوناطراك” و”مدار” والشراكة مع مستثمرين أجانب..
زراعات إستراتيجية
ينطلق مالحة من مفاهيم تتعلق بالزراعات التقليدية والحديثة، ويقول إنه لا يمكن إغفال التحول الكبير الذي طرأ على المجال الفلاحي من حيث الوسائل والتقنيات، وأيضا الأهداف والأولويات، مقارنة مع الماضي.
وتعتمد الزارعة الحديثة، على تكنولوجيا عالية، مثل الري الذكي، الزراعة بالانترنيت واستخدام الروبوتات في إطار ما يعرف بالصناعات الزراعية، بينما الزراعة الإستراتيجية كمفهوم ترتبط بالأمن الغذائي للبلاد، ومن هنا، يأتي اهتمام السلطات بهذا النوع من الزراعة، حيث تحدث رئيس الجمهورية في مرات عديدة، عن أهمية الفلاحة الإستراتيجية.
ورغم الحديث عن زراعات إستراتيجية في شعب مختلفة، يرى مالحة أنه ينبغي تركيز الجهود ومنح الأولوية لإنتاج مواد مثل الحبوب والأعلاف، نظرا لما تمثله من عبء على الخزينة العمومية، داعيا إلى التدرج في تحقيق الأهداف مثلما أكد الرئيس تبون في مناسبات كثيرة، اذ تستهدف البلاد تحقيق الاكتفاء الذاتي في القمح الصلب في 2025، ثم القمح اللين بحلول عام 2027، على أن نتدرج في شعب زراعية أخرى..
ويقول المتحدث لـ”الشعب أونلاين”: ” عندما نتحدث عن زراعات مثل الحبوب والأعلاف، هذه شعب إستراتيجية ذات أولوية، لأننا نتحدث عن إنتاج اللحوم والحليب، بعد أن نحقق الأهداف على المستويين القريب والمتوسط يمكن المضي نحو زراعات أخرى.”
بشأن ربط مفهوم الزراعات الإستراتيجية، في المخططات الفلاحية، بقائمة من الزراعات ومساحات مرجعية، يرى مالحة: ” من وجهة نظري، يمكن اعتبار جميع الزراعات إستراتيجية، بما في ذلك البقوليات الجافة كالحمص والعدس والفاصولياء التي نستهلكها بكثرة، كما يمكن اعتبار تربية الأبقار وإنتاج الحليب زراعة إستراتيجية إلى جانب الحبوب والأعلاف.”
خطوات هامة..
وُيبرز المتحدث أهمية الاستثمار في البنية التحتية المرافقة لهذه المشاريع، مثل الطاقة وشبكات الطرقات، مؤكدا أن خيار الجنوب في تجسيد مشاريع فلاحية ضخمة له أهمية بالغة، منها ما يرتبط بمخزون البلاد من المياه الجوفية.
وردا عن سؤال حول توسيع المساحات الزراعية المستغلة، تحدث الخبير عن تصريحات رئيس الجمهورية بخصوص بلوغ هدف مليون ونصف هكتار، مشيرا إلى ضرورة تسريع وتيرة الهدف، والعمل على رفع المردودية في المساحات المتوفرة بالجنوب مقارنة مع تكاليف الإنتاج مثل الأسمدة والمياه، من خلال اختيار حبوب مناسبة وإتباع أحدث التقنيات والممارسات الحديثة.
وعن أهمية البحث العملي والتكوين، يقول مالحة بوجوب دعم قدرات الفلاحين وتوظيف التكنولوجيات الحديثة في خدمة الفلاحة، ويضيف: ” البحث العلمي عنصر حاسم في تطوير الزراعات الإستراتيجية، لا سيما بالجنوب.. وهنا يأتي دور المعاهد الفلاحية التي بحاجة إلى موارد البشرية ومادية.”
ويتابع بقوله: مهمٌ أيضا تطوير حلقات أخرى في سلسلة الإنتاج، مثل البحث والمرافقة، سواء التقنية أو المادية.. صحيح أنه من الجيد توزيع الأراضي، لكن كما قال رئيس الجمهورية، نوزع الكثير من الأراضي، ولكن ما يستغل منها قليل جدا، وهذا هو التحدي الحقيقي.”
ويُشير متحدث “الشعب أونلاين” إلى اهتمام الدولة بملف التخزين، الذي شكل معاناة للفلاحين لعدم وجود أماكن للتخزين “الآن، بفضل سياسة رفع قدرات التخزين، تحسنت الأوضاع باستحداث مخازن وصوامع، ما ساعد الفلاحين في الشمال والجنوب على تسويق منتجاتهم بسهولة.”
الاستثمار والشراكة..
من منظور مالحة، يكتسي فتح أبواب الاستثمار أمام متعاملين محليين وشركاء أجانب، خطوة هامة في تجسيد مشاريع فلاحية إستراتيجية، وينوه بالشراكة مع متعاملين قطريين، ايطاليين وسعوديين في مشاريع قيد الانجاز بولايات الجنوب، إلى جانب انخراط شركات ومجمعات عمومية كبرى مثل “سوناطراك” و”مدار”، “كوسيدار” في الفلاحة “هذه شركات لديها وسائل وإمكانيات كبيرة وبمقدورها الاستثمار في 100 ألف هكتار أو أكثر.”
وتولي الحكومة أهمية بالغة لهذا الملف، حيث ضُبطت ورقة طريق متعددة القطاعات تتضمن تدابير إضافية لفائدة المستثمرين في تطوير الزراعات الإستراتيجية في الولايات الجنوبية، لاسيما ما يتعلق بتوفير الطاقة، فتح المسالك الطرقية وتوفير خدمات الاتصالات.
ومن أجل تهيئة مسار إنجاح هذه الأقطاب الفلاحية، بُرمجت اجتماعات تنسيقية بين دوائر وزارية مختلفة، بحضور وزارء المالية، الفلاحة، الأشغال العمومية، المنشآت القاعدية، الري، وزير البريد والمواصلات، وولاة أدرار، تيميمون، إليزي، المنيعة، ورقلة، وتوقرت.
إلى جانب إطارات وممثلي الشركات العمومية والهيئات ذات الصلة مثل مجمع سونلغاز واتصالات الجزائر والوكالة الوطنية للموارد المائية، والصندوق الوطني للاستثمار ومدراء المعاهد التقنية المعنية والديوان تطوير الزراعات الصناعية بالأراضي الصحراوية والديوان الوطني للأراضي الفلاحية.
أرقام..
وأشار وزير الفلاحة يوسف شرفة، في آخر اجتماع تنسيقي، إلى انطلاق في تجسيد استثمارات في 94 مستثمرة فلاحية بالولايات الجنوبية، وذكّر بمشاريع إنجاز 350 مركزا جواريا للتخزين بسعة 50 ألف قنطار/ مركز (سعة تخزين كلية تصل إلى 5ر17 مليون قنطار)، وإنجاز 30 صومعة لتخزين الحبوب طويل المدى.
وحول المشاريع الكبرى في تطوير الزراعات الاستراتيجية، تُشير أرقام قدمها الوزير شرفة إلى أنه -إضافة إلى مشروع “بلدنا” لإنتاج الحليب المجفف، ومشروع المجمع الإيطالي “بي اف” لإنتاج الحبوب والبقوليات- هناك حاليا مشاريع مهيكلة في مرحلة التجسيد.
ويتعلق الأمر بمشروع لمجمع سيفيتال على مستوى المنيعة، ورقلة وغرداية على مساحة إجمالية تفوق 285 ألف هكتار، لإنتاج الشمندر السكري ووحدة لتحويله بطاقة 505 ألف طن/سنة، مع إنتاج محاصيل إستراتيجية أخرى، فضلا عن مشروع لشركة “تافاديس” التابعة لمجمع “مدار”، بولايتي ورقلة وتوقرت على مساحة تفوق 20 ألف هكتار، لإنتاج الشمندر السكري ووحدة تحويل بطاقة 60 ألف طن/يوم، مع استهداف إنتاج 720 ألف طن/سنة، علاوة على إنتاج محاصيل استراتيجية أخرى ضمن برنامج التدوير الزراعي.
وسُجّل مشروع استثماري جزائري – سعودي ببلدية حاسي قارة بالمنيعة، على مساحة قدرها 20 ألف هكتار، لإنتاج المحاصيل الزراعية وتربية المواشي، إلى جانب استثمارات في إطار شراكة جزائرية – صينية في الدواجن والزراعات الإستراتيجية بأدرار.