فنان جزائري أصيل، نشأ في بيئة فنية وثقافية غنية، واستطاع من خلال أغانيه أن يلامس وجدان أجيال كاملة، فمن منا ينسى تلك العبقرية التي تجلت في أغان تمجّد القيم الإنسانية والوطنية، من ينسى “جيبُوها يا لولاد” و«شكراً أستاذي”..رفض الهجرة وبقي متجذرا في أرضه بين أهله، حاملا رسالة في قلب ملؤه الحب، وعين لا تغفل عن معاناة الآخرين..إنه الفنان المتألق، والصوت المبهر، والإنسان الممعن في الإنسانية، الصادق جمعاوي الذي يخوض ملحمة جديدة في عوالم الكتابة، ليتوهج في سماوات الحرية، ويواصل رسالة المحبة والتسامح واحترام الآخر..جمعاوي أصدر كتاب “الاحتقار وانحرافات الغرب” ليكون صرخة في وجه “النفاق ما بعد الحداثي”، ويحرض على الوعي والمقاومة..بمناسبة إصدار الكتاب، التقيناه، فكان هذا الحوار..إليكموه..
الشعب: من الأغنية إلى الكتابة، ما الذي دفعك إلى الانتقال من الأضواء الفنية إلى خوض تجربة الكلمة المكتوبة؟
صادق جمعاوي: الفن والغناء كانا مسارات تعبيرية مهمة في حياتي، حيث كنت أستطيع من خلالهما التواصل مع الجمهور بطريقة مباشرة وعاطفية. لكن مع مرور الوقت، شعرت بأن هناك أبعادا أعمق وأفكارا أكثر تعقيدا تحتاج إلى مساحة أكبر من مجرد كلمات الأغاني..الكتابة أتاحت لي المجال لاستكشاف هذه الأفكار بحرية أكبر، وتقديم نقد أكثر عمقا للمشاكل التي يعاني منها العالم، خصوصا ما يتعلق بالهيمنة والاستعمار الجديد..الكتابة هي صوت آخر مكمل للفن، صوت أكثر تركيزا وتحليلا.
هل ترى أنّ تجربتك الفنية كانت مقدّمة لولادتك ككاتب؟ أم أنّ الكتابة كانت دومًا مشروعا مؤجّلا في داخلك؟
بلا شك، كانت تجربتي الفنية محطة أساسية ومقدمة ضرورية لرحلتي في عالم الكتابة..الفن، وخصوصا الغناء، منحني وسيلة مباشرة للتواصل مع الناس، وعوّدني على الإصغاء العميق لنبض الشارع وهموم الناس وأسئلتهم الوجودية. لكنه، في المقابل، بقي محدودا في المساحة التي يتيحها للتعبير؛ الأغنية تلامس العاطفة لكنها لا تحتمل التوسّع في الطرح أو التحليل المعمّق، أما الكتابة، فكانت تسكنني على الدّوام..كنت أكتب منذ سنوات طويلة، أحيانا بدافع الغضب، وأحيانا بدافع الأمل، لكنني في كل مرة كنت أكتب وأمزّق..على مدار 15 عاما، مارست هذا الطقس من الكتابة والتمزيق، بحثا عن لحظة نضج أستطيع فيها أن أواجه العالم بالكلمة، لا بالشعور فقط..لم أكن أريد إصدار كتاب من أجل النشر، بل كنت أبحث عن كتابة صادقة، صلبة، تعبّر عن قناعاتي العميقة وتجربتي الإنسانية..
تجربتي الفنية هي التي مهّدت لي الطريق، لكنها لم تكن إلا البداية..الكتابة جاءت كتواصل واستمرار، وكانت ثورة داخلية..لقد منحتني حرية أكبر، ومسؤولية أعمق..لم أعد أكتب لأعبّر فقط، لكن أكتب لأُسائل وأفكك وأكشف..وهنا بدأت مرحلة جديدة من مسيرتي..مرحلة الكلمة الجذرية التي لا تبحث عن التصفيق، بل عن الوعي..
في رأيك، هل الكلمة المكتوبة أقوى من الأغنية؟ أم أنّ لكلّ سلاحه ووقته؟
لكل منهما قوته وفعاليته..الأغنية تصل إلى العاطفة بسرعة وتثير المشاعر، بينما الكتابة تمنح مساحة للتفكير والتحليل..لا يمكنني القول إن واحدة أقوى من الأخرى، فهما يكملان بعضهما في معركة الوعي.
كيف ترى موقع الفنان في مواجهة الظلم والاستلاب؟ وهل يكفي الصوت وحده لفضح ما يحدث؟
الفنان هو صوت الشعوب والمجتمعات، له دور مهم في فضح الظلم وإثارة الوعي، لكن الصوت وحده لا يكفي، يجب أن يكون هناك تفاعل مع المجتمع وحركات نضالية وأفعال عملية. الفن يُعبّد الطريق.
كتابك “الاحتقار وانحرافات الغرب” جاء في لغة قوية وصادمة أحيانا..ما الذي أردت قوله من خلال هذا العمل؟ وما الرسالة الأساسية التي يحملها الكتاب في عمقه؟
الكتاب هو صرخة إنسانية قبل أن يكون عملا فكريا. أردت من خلاله أن أكشف الوجه الحقيقي لما يسمى بـ«الحضارة الغربية”، التي تتغنّى بالحرية والديمقراطية، بينما تمارس في الواقع احتقارا ممنهجا لبقية الشعوب، وانحرافات أخلاقية وسياسية تهدّد مستقبل الإنسانية.
الكتاب يعرّي نفاق الغرب المتغطرس، ويفضح آلته الإعلامية والسياسية التي تسوّق الاستعمار والحروب كأنها “رسالة حضارية”..عبر 19 عنوانا، حاولت تفكيك هذه المنظومة الاستعلائية، بدءا من المفاهيم اللغوية، مرورا بتاريخ الاضطهاد، وصولا إلى أمثلة معاصرة مثل غزو البلدان وشيطنة الآخر، أما الرسالة المركزية للكتاب، فهي..لا يجب أن نخضع لآلة الهيمنة، بل علينا أن نفضحها ونقاومها. وأن الشعوب المسالمة تملك الحق في الدفاع عن نفسها، ثقافيا وفكريا، وحتى ثوريا إذا لزم الأمر. من هنا، جاء هذا العمل ليكمّل مساري الفني، لكن بلغة أكثر مباشرة وجذرية.
في أكثر من موضع، تضع “الاحتقار” كمفتاح لفهم سياسة الغرب تجاه الشعوب الأخرى. لماذا اخترت هذا المفهوم بالتحديد؟ وكيف اخترت العناوين؟
الاحتقار هو جوهر الاستعلاء والهيمنة..هو الموقف النفسي الذي يُبرر الظلم والاستغلال. عندما تحتقر الآخر، يصبح من السهل عليك أن تستعمره وتستعبده. لهذا اخترت التركيز على الاحتقار، لأنه ليس فقط فعلا أو سياسة، بل هو حالة نفسية وفكرية تشكل أساسا للاستعمار الحديث..اختياري للعناوين لم يكن عشوائيا، بل كانت مقصودة لتحمل دلالات رمزية وفكرية تعبر عن مراحل الاستلاب، الرفض..أردت أن يكون هذا الكتاب ساحة مواجهة فكرية متعددة الزوايا.
في مواضع عديدة من كتابك، تصف الغرب بأنه يعاني من “جنون استعلائي”. ماذا تعني بذلك؟
جنون الاستعلاء يتجلّى في خطاب “التفوق العرقي”، في معاملة اللاجئين، في ازدواجية المعايير في السياسة الدولية، في تشريع الحروب بذريعة نشر الحضارة. نقد هذا الجنون واجب كل مثقف ملتزم بقيم العدالة.
الكتاب مليء بمصطلحات مثل: “الاستعباد”، “التفوق الكاذب”، “الهيمنة الرمزية”، لماذا هذا التكرار الكثيف للّغة الحادّة؟
المصطلحات الحادة تُعبّر عن بشاعة الواقع الذي نحياه. كيف يمكن الحديث عن “الاستعمار” بلغة رخوة؟ كيف يمكن وصف التهجير والقتل والإبادة التي تحدث في غزّة بلغة رخوة؟ أُدافع عن اللغة كصرخة، كوسيلة لفضح الغطرسة، التواطؤ والخداع.
في نهاية المقدمة، تدعو إلى “ثورة روحية وأخلاقية” في مواجهة المشروع الاستعماري الجديد. ماذا تعني بذلك؟
الثورة الروحية هنا تعني استعادة القيم المنسية: الكرامة، العدالة، الحب، السلام. هي ثورة ضد تحويل الإنسان إلى مستهلك، وضد تسليع العقل والوجدان..أما الأخلاق هنا، فهي ليست وعظا، بل أداة مواجهة..لا يمكن هزيمة المشروع الاستعماري بالبنادق فقط، بل يحتاج إلى وعي جماعي يُعيد للإنسان معناه، وينتج خطابا مضادا يُواجه التوحّش بقيم الحياة، والهيمنة بالمعرفة، والاحتقار بالاحترام المتبادل.
تستشهد بنماذج من نضالات عالمية مثل نيلسون مانديلا وهوشي منه. ما الرسالة التي تريد إيصالها من خلال هذه النماذج؟
أردتُ أن أُظهر أن الشعوب حين تمتلك الوعي والكرامة، تنتصر..نيلسون مانديلا مثال على أن السجن لا يقتل الحرية، وهوشي منه أثبت أن الفلاّحين البسطاء قادرون على هزيمة قوى عظمى.
هذه النماذج تُحفّز الأمل، تُعيد الاعتبار للقيم النضالية، وتؤكد أن التغيير لا يأتي فقط من النخبة، بل من إرادة جماعية لا تُقهر. أردت القول: كل نظام قمعي يحمل في داخله بذرة سقوطه، والشعوب المضطهدة تملك مفتاح هذا السقوط.
ما موقع الجزائر في هذا التصادم الحضاري الذي ترصده في كتابك؟
الجزائر تمثل تجربة نضالية عظيمة في مقاومة الاستعمار والهيمنة. هي مثال حي على أن شعوب الجنوب قادرة على المقاومة والصمود.
أومن بأن الشعوب المضطهدة لديها الإرادة والقوة لتغيير الواقع وإنهاء حالة الاستلاب. العدالة ليست مستحيلة، ولكنها تحتاج إلى وعي جماعي ونضال مشترك بين تلك الشعوب حول العالم.
هل تخاطب في كتابك القارئ الغربي، أم العربي، أم الإنسان عمومًا؟ ومن هو الجمهور الذي تتصوّره في ذهنك وأنت تكتب؟
أنا أخاطب الإنسان في جوهره، الإنسان الذي ما زال يحتفظ بقدر من النقاء الأخلاقي، وبالقدرة على الاستفزاز المعنوي أمام الظلم. لكن تركيزي في هذا الكتاب موجّه بدرجة أكبر إلى القارئ الغربي، لأن كثيرا من المآسي التي يعاني منها العالم اليوم، ومن بينها شعوب الجنوب، تُدار من غرف القرار الغربية، وتسوَّق بمفردات مزيفة كـ«الحرية” و«حقوق الإنسان” و«الحداثة”.
لكنني لا أخاطب الغرب ككيان جغرافي فقط، بل كمنظومة فكرية ونفسية تقـنــــن الاحتقار وتُشرعن الاستعلاء. الغرب لا يرضى للأمة الإسلامية أن تبقى على طهارتها الروحية، ما دامت تتوضأ خمس مرات في اليوم، وما دامت تتمسك بجذور قيمها ومعانيها. إنهم لا يعادوننا فقط لما نفعله، بل لما نحن عليه، لهويتنا، لصلابتنا المعنوية. هذه العداوة تتجاوز السياسي، لتصل إلى جوهر الوجود نفسه.
الغرب، كما أراه اليوم، لم يعد مؤهّلا ليقدّم دروسا في الإنسانية. بل على العكس، هو في موقع المساءلة. كيف يمكن لمن يشعل الحروب، ويشرد الملايين، ويغذي الاستغلال، أن يتحدث عن الحقوق؟ إنني أكتب لأقول: آن الأوان لأن نُسقِط عن هذا الغرب قناع النفاق، وأن نُعيد تعريف الإنسان بمعاييرنا، لا بمعاييره. فالإنسانية ليست اختراعا غربيا، ولا الأخلاق منتوجا حضاريا غربيا، بل هي ميراث إنساني مشترك.
ماذا تقول لجمهورك الفني؟
لم أغادر الساحة التي جمعتنا يوما على الفرح والحلم المشترك. أنا فقط انتقلت من آلة العود إلى آلة القلم، ومن نغمة الأغنية إلى إيقاع الكلمة. لكن روحي لم تتغير، وما زلت أقاتل من أجل الحقيقة والكرامة، بصوت مختلف لكن بنفس الإيمان. أنتم دمي الذي يغذي قلمي، ومحبتكم هي الزاد الذي أحمله معي وأنا أواجه هذا العالم المليء بالزيف.
الصادق جمعاوي لم يغادر الفن، أنا ما زلت مغنيًا، لأن الفن يسكنني. لكنني شعرت أن الأغنية وحدها لم تعد كافية لتقول كل ما أريد قوله، فاخترت أن أوسّع المساحة، أن أستخدم الكلمة كمنصة أخرى للمقاومة والنور.
الكتابة ليست قطيعة مع الفن، بل امتداد له..هي الجبهة الثانية في معركة واحدة. من غنيت لهم “جيبُوها يا لولاد” و«شكرا أستاذي”، ما زلت أحملهم في قلبي، وأكتب وفي أذني أصواتهم وفي ذاكرتي وجوههم. لا أزال أومن بأن الفن هو أجمل أشكال النضال، وأن الكلمة، كالصوت، يمكن أن تهزّ ضمير العالم.
أنتم لستم فقط جمهوري، أنتم رفاق درب، وشركاء حلم، وسأبقى لكم وفيا، سواء غنيت أو كتبت، لأن الروح واحدة.