قطعت الجزائر أشواطا مهمة في مسار الإصلاحات الاقتصادية، وقد حققت من وراء هذا العديد من المكاسب والنتائج الإيجابية، التي ساهمت في تعزيز قوة الاقتصاد الوطني خارج المحروقات، من خلال تنويع الإنتاج ومصادر الأموال، حيث أصبحت أكثر انفتاحا على مختلف القطاعات، بغض النظر عن طبيعتها، المهم أن تكون قابلة وقادرة على الانصهار في هذا التوجه، وتمنح قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، بما يجعلها تكسب رهان التحديات الجيو-اقتصادية المطروحة على الصعيد العالمي..
وفي سياق تنويع مصادر الأموال للخزينة العمومية، بعيدا عن الاقتصاد الريعي طبعا، الذي تسعى الجزائر إلى الخروج السلس منه، هناك أموال الزكاة التي بإمكانها أن تكون رقما مهما في معادلة الاقتصاد الوطني، وتتحول إلى قيمة مضافة له، في حال ما أحسن تحصيلها واستغلالها بطرق علمية وعصرية، تجعل منها مساهما فاعلا في التنمية المستدامة.
فالزكاة، إضافة إلى أنها فريضة من فرائض الله وركن من أركان الإسلام، وشعيرة من الشعائر المقدسة، فهي أحد الأدوات الهامة في المنهج التنموي الإسلامي ودعامة من دعائم الدولة من أجل التكافل الاجتماعي أولا والاقتصادي ثانيا، ومعالجة العديد من الأزمات ذات الطابع الإقتصادي كالفقر والبطالة وأزمة التشغيل إذا حسن تطبيقها وتأطيرها والإشراف عليها، فكانت بذلك الزكاة إحدى الركائز المهمة في دعم التنمية الاجتماعية ضمن منظومة اقتصادية متكاملة. الزكاة تمثل موردا ماليا لصالح الفقراء والمحتاجين في المجتمعات الإسلامية.
وتعتبر الزكاة عملا خيريا وإلزاميا وليست صدقة تطوعية، وإنما فريضة تتمتع بأعلى درجات الإلزام الخلقي والشرعي، بهدف دعم الفئات الفقيرة في المجتمع، وتنقية وتطهير النفس من الشح حتى يبارك الله في أموال الأغنياء وكل من تتوفر فيهم شروط وجوب هذا الركن المهم في الإسلام، قال تعالى: “إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وإبن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم” سورة التوبة، الآية 60.
الكثير من الأغنياء وحتى الفئات التي وجب عليها إخراج الزكاة، سواء من عمل أو إرث أو تجارة، أهملت أهمية هذا الركن ولم يؤدوا واجبهم تجاه الفقراء والمحتاجين، وحسب مصادر إعلامية جزائرية وإحصائيات حكومية، واستنادا إلى الناتج المحلي الخام، قد تصل القيمة المالية للزكاة المقدرة للجزائريين، 4.5 مليار دولار سنويا، لكن للأسف لا يمكن تحصيل إلا 20 مليون دولار سنويا، أي جمع نسبة لا تتعدى 0.4 بالمائة من هذه القيمة المعتبرة، وهو ما يثر العديد من التساؤلات، لماذا هذا الفرق الشاسع؟ أين يكمن الخلل؟ هل الأمر مرتبط بانعدام الثقة في صناديق الزكاة؟ أم بعنصر الإفصاح والشفافية؟ أو قلة الوعي بإلزامية إخراج الزكاة والمقدرة بـ2.5 بالمائة شرعا وقانونا؟ أم أن المسألة تتعلق بالنظر إليها كصدقة تطوعية وغير إلزامية؟
ومهما تعددت الأسباب، يقتضي الوضع ضرورة البحث عن الآليات والطرق المثلى لتحصيل أموال الزكاة، وتأطيرها شرعا وقانونا؟ بما يجعلها تتحول إلى أصول إستثمارية وقيمة مضافة للاقتصاد الوطني، ومصدرا ماليا إضافيا للخزينة العمومية، ولا يمكن بلوغ هذا الهدف إلا برقمنة الزكاة، نعم لابُد من رقمنة الزكاة!! إنه الحل الأمثل لتحقيق مكاسب اجتماعية واقتصادية في آن واحد للفقراء والمحتاجين، والسبيل نحو تحقيق التنمية المستدامة المنشودة، وتعزيز ديناميكياتها.
التوعية المستمرة لفريضة الزكاة على مدار السنة
إن التوعية مهمة وضرورية في كل الحالات، فما بالك عندما يتعلق الأمر بمسألة ذات أهمية قصوى مثل فريضة الزكاة، بالنظر إلى أبعادها الدينية والاجتماعية والاقتصادية، وعليه بات من الضروري التحسيس بأهميتها على مدار السنة، عبر المحطات التليفزيونية، والجرائد وصفحات التواصل الإجتماعي، والمساجد والمدارس، وحتى القنصليات الجزائرية في الخارج، وإلزامية إخراج الزكاة بقيمتها المحددة شرعا وقانونا والمقدرة بـ2.5 بالمائة من كل مال بلغ النصاب وحال عليه الحول، وتوفرت فيه الشروط المطلوبة، إذن لابد من الاجتهاد حتى تصبح الزكاة ثقافة متجذرة في أوساط المجتمع الجزائري، ولا يستثنى منها تجار الإقتصاد الموازي!! لأن الزكاة في الإسلام لم تكن مجرد عمل طيب من أعمال البر، أو إحسانا إختياريا أو صدقة تطوعية، بل هي ركن أساسي من أركان الإسلام، وشعيرة من شعائره الكبرى، حيث تساهم في التقليل أو الحد من الفقر ومن التفاوت الطبقي داخل المجتمعات.
رقمنة الزكاة لتكريس الشفافية
إن الاستعانة بالوسائل التكنولوجية الحديثة وبالذكاء الاصطناعي، وإدخال المعلومات بالوثائق الثبوتية وتعزيز الشفافية بين المزكي والمحتاج، سيساعد الدولة من جهة، على إحصاء وجمع الزكاة المستحقة على الجزائريات والجزائريين، بما فيهم الجالية الجزائرية في الخارج، التي نجدها دوما وفية وحاضرة في كل المناسبات الدينية والثقافية والرياضية، ومتفاعلة مع كل الأحداث الوطنية، المفرحة والمحزنة منها لا قدر الله، قال رسول الله ﷺ “مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم كمثل الجسد، أذا أشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.
ومن جهة أخرى تسجيل كل المحتاجين الحقيقيين، دون إهمال أي فقير أو مسكين أو محتاج عبر ربوع الوطن. وقد تكون مساهمة الزكاة في الإقتصاد الجزائري معتبرة جدا، فالزكاة منظومة كاملة ومتكاملة تحتاج إدارة منظمة لضمان استغلالها الأمثل، إذ يجب إدراجها في ميزانية الدولة سنويا، فإذا غطت الزكاة كل مصاريف الفقراء والمحتاجين في الجزائر، سيمكن هذا الدولة من استثمار الميزانيات المعتبرة التي ترصدها للدعم الاجتماعي، والتي تستفيد منها الفئات المعوزة والهشة وذوي الاحتياجات الخاصة، يضاف إليها الميزانيات التي تخصص لمنحة البطالة ومنحة المرأة الماكثة في البيت.. من استغلال هذه الأموال، أو بالأحرى توفر هذه المصاريف، بما فيها الإيرادات الإقتصادية الأخرى، في تعزيز البنية التحتية وتحسين الخدمات الصحية، أو استثمارها في تطوير منظومة التعليم، وفي البرامج التي تعنى بتأمين الغداء وتحقيق الإكتفاء الذاتي، والمساعي التي تسهر على توفير الأمن والأمان.
تعتبر المملكة العربية السعودية من أوائل الدول الإسلامية في الفترة المعاصرة التي أنشئت هيئة الزكاة التابعة لشؤون الضمان الإجتماعي، والسبّاقة في سن قوانين تلزم بدفع الزكاة المستحقة، حيث تتولى هذه الهيئة الحكومية بتوزيع أموال الزكاة، عن طريق تقديم معاشات شهرية للفقراء ومحدودي الدخل، أو إنشاء ومساعدة مشاريع إنتاجية لصالح المستفيدين القادرين على العمل، وقد اعتمدت في ذلك على سهولة دفع الزكاة بكل الوسائل البنكية والإلكترونية الحديثة، وبالنظر إلى هذه التجربة الرائدة، التي كانت لها منافع اجتماعية واقتصادية، أعتقد أنه حان الوقت لإنشاء قانون الزكاة في الجزائر، الذي يجعل دفع الزكاة إجراء إجباريا لكل من تتوفر فيه شروط تأدية هذه الفريضة.
وجوب الزكاة على المؤسسات الإقتصادية
هناك الكثير من الأغنياء يخرجون أموال الزكاة بطريقة عشوائية، قد يستفيد منها بعض الفقراء والمحتاجين، وحتى الكثير من ميسوري الحال! في حين يحرم منها البعض الآخر ممن هم بأمس الحاجة إليها، ومن باب الإنصاف وإعطاء كل ذي حق حقه، يتعين هنا وضع أموال الزكاة في الصناديق التابعة للديوان الوطني للأوقاف المرقمنة، لابد من استعمال الرقمنة واعتماد التكنولوجية الحديثة والجد متطورة في توزيع الزكاة في سبيل تحقيق التكافل الاجتماعي والاقتصادي.. ويمكن الذهاب إلى أبعد من هذا، حيث يمكن إشراك المؤسسات الإقتصادية الجزائرية في هذه العملية! فالضرائب تساهم في إيرادات الدولة، في حين وجب إحتساب أموال الزكاة المستحقة لكل شركة، وإلزامية دفعها في الصندوق الخاص بالزكاة. وتحسب الزكاة بناء على صافي ثروة المؤسسة التجارية، والمشار إليه باسم “وعاء الزكاة”، ويكون مقدار الزكاة المستحقة 2.5% من هذا الوعاء، حسب القوانين الحكومية والتشريع الإسلامي.
وتسهر الدولة من خلال صندوقها الخاص بالزكاة، على توزيعها على مستحقيها بإستعمال الرقمنة. وهنا يمكن تحقيق النسبة المئوية المطلوبة والمقدرة بـ2.5%، وإذا لم تبلغ النصاب، يتم في هذه الحالة برمجة إخراجها السنة المقبلة.
هكذا نكون قد ضمنا إخراج الزكاة الإلزامية على كل المؤسسات الإقتصادية، وحافظنا على حق الفقراء والمساكين.
استثمار أموال الزكاة في مكافحة البطالة
إن استثمار أموال الزكاة في مشاريع اقتصادية، وتمويل المؤسسات المصغرة والمنتجة، لمستحقيها القادرين على العمل، ومنح الدعم لكل حرفي يطمح إلى تطوير عمله، بالاعتماد على صيغة القرض الحسن، سيؤدي إلى مكافحة البطالة، وتقليص نسبها وتحقيق الاستقرار في المجتمع. فالقيمة المالية الهائلة الناتجة عن عملية جمع أموال الزكاة والمقدرة بملايير الدولارات، أو ما يعدلها بالعملة الوطنية، بإمكانها القضاء على الفقر تماما، فالدولة بصندوقها الخاص بالزكاة، تحت إشراف الديوان الوطني لأوقاف الزكاة، تسهر على ضخ الأموال المحصلة من الزكاة في المؤسسات الصغيرة أو المصغرة والمنتجة للمحتاجين الذين يستطيعون العمل، كما أن نجاح مؤسساتهم، سيساهم في تنمية الاقتصاد الوطني من جهة، ويفرض عليهم إخراج زكاتهم الإلزامية من جهة أخرى، طبعا في حال بلوغ مؤسساتهم نصاب الزكاة، بل إن هذا سيمكن محتاجين آخرين من خلق مؤسساتهم وتحقيق طموحاتهم في مجال الإنتاج، أو تطوير حرفهم من خلال مؤسسات مصغرة…
هكذا يمكن بناء أجيال منتجة ومبتكرة، لكن لا يمكن تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، ما لم يتم التخلص من الطرق والوسائل التقليدية والبدائية التي تجاوزها الزمن، واعتماد التكنولوجيا الحديثة والعصرنة، في كل القطاعات ذات الصلة بالاقتصاد، بما فيها الزكاة التي تعتبر رقمنتها ضرورة حتمية وملحة، والحرص على سن قوانين تلزم كل الأغنياء والمؤسسات التجارية، وكل الفئات التي تتوفر فيها شروط إخراج الزكاة دفع مستحقاتها، لتحقيق التكافل الاجتماعي ودعم الاقتصاد الوطني، الذي هو بحاجة إلى مصادر جديدة للأموال، من خلال ترسيخ الزكاة كمنظومة اقتصادية كاملة ومتكاملة، وأداة لتحقيق التنمية المستدامة.
بقلم محمد قحش
خبير إقتصادي ومحلل سياسي
واشنطن – الولايات المتحدة الأمريكية