يُثير فاعلون في صناعة الكتاب إشكاليات ومسائل ترتبط بالتطور السريع في التكنولوجيا ومنصات التواصل الاجتماعي وأدوات الذكاء الاصطناعي، و “صعود” ممارسات وعادات تؤثر على ذوق واختيارات القارئ عموما..
يتيح صالون الجزائر الدولي للكتاب في طبعته الـ 27 الجارية بقصر المعارض “سافاكس” بالجزائر العاصمة، فرصة هامة لفتح نقاشات مستفيضة بين مهنيين، فاعلين ومختصين في صناعة الكتاب، ومستقبل هذا الأخير إزاء ما يطرأ من متغيرات ومؤثرات.
الأمر لا يتوقف عند مسألة الإنتاج الفكري والأدبي ووصوله إلى الجمهور، إنما هناك ما يناقش أيضا قارئا وجيلا جديدا له خصوصياته، تختلف عن ما كان معهودا، قبل زمن الكتاب الرقمي والانتشار الواسع للمعرفة في فضاءات افتراضية ليس لها حدود.
من الجوانب التي تشغل أصحاب دور نشر ومؤلفون، بحسب ما استقيناه من هذا المعرض، ما تعلق بممارسات غير قانونية أفرزتها البيئة الرقمية، تهدد صناعة الكتاب برمتها، في غياب ضوابط وآليات قانونية، لها تأثيرات تتعدى الجوانب الاقتصادية إلى الذوق والثقافة العامة وتنمية العقول.
لعل من بين المسائل المطروحة في هذا الجانب إشكالية قرصنة كتب وتوزيعها بشكل غير قانوني في فضاءات افتراضية، وما يسببه ذلك من أضرار لصناعة النشر، إلى جانب مخاطر اجتماعية واقتصادية وثقافية، في الكتب الرقمية لغياب الضوابط والرقابة.
ويطرح البعض الآخر، إشكالية تدني الذوق العام في القراءة، وانتشار عادات استهلاك سطحي على حساب القراءة المتأنية العميقة، التي تنمي العقل وتضيف مكاسب للثقافة العامة والمقروئية العمومية.
بالنسبة للدكتور مختار خماس، ممثل عن دار بنو نديم، في حديث لـ “الشعب أونلاين”، ترتبط الاشكاليات التي صاحبت الكتاب الرقمي بالعولمة الثقافية والتطور التكنولوجي واتساع العالم، وتغير كثير من المفاهيم بفعل التكنولوجيا.
الرقمنة والقرصنة
يقول خماس، إن التكنولوجيا أنتجت كتاب وهميين، وبلغ الأمر في عصر الذكاء الاصطناعي حد تأليف كتب بسهولة، وبالتالي هناك تقليل من مصاريف كثيرة في التأليف والترجمة وحقوق المؤلف، وكل هذا ينعكس على القيمة الحقيقية للكتاب والقراءة بشكل عام.
يعطي المتحدث مثالا بموسوعة برنيستون للفكر الإسلامي، تعرضها دار نديم، وهي عبارة عن مجلدين بورق من النوع الرفيع وتغليف كرتوني واقتناء الدار لحقوق الكتاب بأثمان باهضة ” قيمة الكتاب مكلفة تضاهي قيمته الأدبية، ورغم ذلك أجرينا تخفيضات بمناسبة المعرض لهذه الموسوعة القيمة جدا المطبوعة في دار نشر جزائرية.”
بالمقابل، في زمن سرعة نقل المعلومة، يشير خماس إلى ممارسات أضرت كثيرا بالناشرين “يمكن قرصنة كتاب حديث الصدور بسهولة وإتاحته على الانترنيت، وهذا من بين أسباب تعرض الناشرين إلى خسائر كبيرة، وبالتالي الأمر له تأثيرات على جوانب أخرى تدخل في صناعة الكتاب.”
وأوضح المتحدث أنه أصبح شائعا بحث قراء عن عناوين جديدة في محركات البحث رغم وفرتها في فضاءات بيع الكتب، وهناك مؤلفات تقرصن في وقت قياسي وتتاح مجانا على الانترنيت “صحيح توجد ظروف ومستوى معيشي يدفع البعض إلى البحث عن كتاب بأقل تكلفة، لكن لا يجب أن يكون ذلك حساب صناعة الكتاب وقيمة هذا الأخير.”
في الجزائر، يبرز المتحدث، أن الدولة الجزائرية تأخذ عين الاعتبار هذه المسائل من أجل تشجيع الناشرين بحوافز ضريبية، قصد الارتقاء بصناعة الكتاب والقراءة.
تواجه مهنة نشر الكتاب، تحديات جمة تقتضي تضافر جهود دور النشر في إيجاد حلول للمسائل المطروحة، على غرار دراسة تكلفة الكتاب، ليصل إلى القارئ بأسعار معقولة، بالمقابل، على القارئ أن يدرك أن الكتاب الورقي الجيد قيمة ثابتة مهما تطورت التكنولوجيا، على حد قول المتحدث.
في السياق ذاته، يُشير خماس إلى عادات سيئة لدى القراء صاحبت الكتاب الرقمي، منها هوس تحميل مجلدات من الكتب دون مطالعتها، إلى جانب تأثيرات صحية ونفسية للقراءة الرقمية، بحسب ما توصلت إليه دراسات علمية.
يقول المصدر ، لا يمكن قياس مسألة القراءة لدى الجزائريين بشكل محدد، ولكن يعتبر معرض الجزائر الدولي للكتاب، من أنجح التظاهرات في الوطن العربي بشهادة ناشرين أجانب: ” تفاجأ قائمون على دار نشر مصرية بتهافت جزائريين على اقتناء مؤلفات قديمة لعبد الرحمان بداوي، مع أنه في دول عربية أخرى لا يوجد إقبال عليها، وهذا يعكس وعي القارئ الجزائري وجودته”.
تدني الذوق العام
عن الكتاب الرقمي وما تطرحه تأثيرات تكنولوجية مثل منصات التواصل الاجتماعي من ممارسات أثرت بشكل كبير على مسألة الذوق العام، تقول الدكتورة فادية عبد الخالق، ممثلة دار أرسلان السورية، إن المشكلة الجوهرية ليست الرقمنة مادام يمكن ضبط الموضوع، وهناك تجارب في هذا السياق “صحيح الكتاب الرقمي منافس قوي للكتاب الورقي، لكن ليس هذا هو المقلق في الأمر.”
بحسب فادية، الأخطر في البيئة الرقمية، إتاحة كتبا جاهزة للقراءة بصيغ “pdf”، أحيانا تكون مبتورة “وحدث أن صادفنا مؤلفات مبتورة من هنا وهناك.”
برأي ممثلة دار “أرسلان”، الأخطر ما في الموضوع، أيضا، يتمثل في ذوق القراءة، خاصة في أوساط الشباب، وهو ذوق متغير – بحسبها- بشكل جذري “أقصد التوجه إلى كتب فارغة المحتوى، قصص عن الجن والعالم الآخر، وهي كتب لا تُنمي العقل بقدر ما هي حشو للدماغ.”
وتابعت بقولها:” هناك من يقولون نحن نقرأ، بهذا الشكل أنتم لا تقرؤون، أنتم تسممون عقولكم.. أعتقد أنه بغض النظر عن مسألة المنافسة بين الكتاب الورقي والرقمي، الخطورة الأكبر تكمن في المحتوى السيئ للكتب.”
وتواصل “في الأصل، الكتاب الالكتروني يحمل الكتاب التقليدي لا يقف ضده، لكن عندما تكون هناك ممارسات غير شرعية هذا هو السيئ، نحن نتعامل كثيرا مع منصات رقمية بشكل يحفظ حقوقنا وحقوق القارئ في المعلومة على حد سواء.”
وتربط المتحدثة ما سبق ذكره بتنمية العقول ومستقبل الثقافة في الوطن العربي، مشيرة إلى أن الظواهر السلبية التي ترافق صناعة الكتاب في هذا العصر لها تأثير مباشر على فئة من القراء.
بين تشريح مختار خماس وفادية عبد الخالق، حول ما يطرحه واقع صناعة الكتاب في العالم العربي، إزاء متغيرات وبيئة جديدة أتاحت الوصول السهل والسريع إلى معرفة مجانية أو بأسعار رمزية، وما يقابل ذلك من “استهلاك” سطحي سريع يميل أحيانا إلى المسح أكثر من شيء آخر، إضافة إلى تأثير القرصنة على صناعة النشر والإبداع الأدبي.
يرى محمود عبد العزيز، ممثل جناح المنظمة العربية للتنمية الإدارية، أن موضوع القرصنة نقطة سوداء بين ما هو ورقي ورقمي، والأخير – بحسبه – أصبح منافسا شديدا بالنظر إلى ما يتيحه من مزايا ارتبطت بسهولة الوصول إلى المعرفة والحصول عليها بأقل تكلفة، غير أن الأمر يطرح إشكاليات عويصة لدور النشر ويسبب لها أضرار وخسائر.
من وجهة نظر محمود، لا يجب ان نحصر مسألة ذوق القراءة بالتنافس الحاصل بين الكتاب الورقي والرقمي، ويعتقد أن الأمر محسوم على مستوى القارئ: ” في هذا الصالون مثلا نرصد قراء مدركون ما يتواجدون من أجله، قد يرتبط الأمر بالميول الأدبية أو التخصص العلمي.. وآخرون ينجرون وراء ما نسميه موضة القراءة.”
ويختم المتحدث قوله: “نشارك في معرض الجزائر منذ قرابة 15 سنة، مقارنة مع معارض نحضرها في دول أخرى، نقدر أن القارئ الجزائري فوق الممتاز وهذا ما نلمسه في كل مشاركة.”
وفي الجانب الجزائري، يشير رئيس المجلس الأعلى للغة العربية، صالح بلعيد، إلى الكتاب الجزائري ليس في مستوى المنافسة الدولية: ” الكتاب بحاجة إلى فنيات، ألوان، سرعة واخراج وصفر خطأ، إلى جانب احترافية مثلما نراه في مؤسسات عربية.”
ويتابع في هذا الشق: ” لا نطعن في الكتاب الجزائري بقدر ما نقول إنه لابد أن يغير من شكله ومحموله ومتنه، يطغى عليه جانب تقليدي، ونحن في عصر التقنية، الآن تقريباً كل الكتب تحمل شفرة القراءة السريعة إلا الكتاب الجزائري يخلو من ذلك.”
عموماً، تجمع آراء المتحدثين، على أن صناعة الكتاب في العصر الحالي تواجه تحديات كثيرة، منها مواكبة تطورات ومتغيرات وسمات قراءة جديدة أوجدتها التكنولوجية.